تابع تفاصيل فضاءات هلسا الكابوسيّة في «الروائيّون» وقد تم طرح الخبر عبر عرب 48 .. تابع فضاءات هلسا الكابوسيّة في «الروائيّون»
والتفاصيل عبر الوطن #فضاءات #هلسا #الكابوسية #في #الروائيون
[ad_1]
في مشهد ربّما يكون من الأكثر إيلامًا للمشاهدة، يظهر الأسير اليافع أحمد مناصرة على شاشة معلّقة على رافعة سوداء. الأب يقف أمام التلفاز، يد في جيب بنطاله، مستمعًا لآلام ابنه بإنصات. أحمد، الّذي كان قد ظهر في فيديو وهو ممرَّغ بدمائه على الأرض، رجله اليسرى مثنيّة بجانبه على الأرض في الاتّجاه المعاكس بسبب انكسارها. نسمع الصهاينة يشتمونه وهو طفل ممرَّغ بدمائه، وتتأخّر سيّارة الإسعاف في الوصول. قُذِف أحمد إلى الزنزانة الانفراديّة لأشهر متواصلة. يظهر على الشاشة اليتيمة في قاعة شبه فارغة، يشكو إلى أبيه الزنزانة، يقول: “بظلّ لحالي يابا”.
المناصرة واحد من بين مئات الفلسطينيّين الّذين دفعوا ثمن نضالهم؛ ليس من خلال ارتقاء الجسد مثل الشهيدات والشهداء، لكن بتضحية الجسد للحبس والتعذيب والمراقبة. مع أنّ الجسد يبقى “حيًّا”، وذلك لعدم ارتقائه، إلّا أنّ الحالات غير الطبيعيّة وغير الإنسانيّة الّتي يرغم فيها هذا الجسد تجعل من الحبس، الّذي يعانيه مئات المعتقلين الفلسطينيّين، كابوسًا أقسى من الموت.
«الروائيّون» في فضاء السجن الجروتسكيّ
غالب هلسا (1932-1989)؛ المناضل الأردنيّ والناقد الماركسيّ، والمعتقل والمنفيّ السياسيّ، والروائيّ العبقريّ، يصف هذا الفضاء بدقّة مقلقة في «الروائيّون». تدور أحداث الرواية في القاهرة في أوّل الستّينات، حين يُفْرَج عن مجموعة كانت قد اعتُقِلت في عام 1959، تضمّ أربعة معتقلين سياسيّين شيوعيّين، وذلك حسب الرواية، بعد زيارة الفيلسوف الفرنسيّ جان بول سارتر[1] لجمال عبد الناصر وطلبه العفو عنهم. الفصل الأوّل في الرواية يصف حياتهم في السجن، وفي الفصول الّتي تلحقه نسمع عن حياتهم بعد الإفراج عنهم.
يصف هلسا فضاء السجن بواقعيّة فاجعة يسودها الوصف الجروتسكيّ – النافر المقزّز، ووقائع سرياليّة تؤجّج من ثقل الواقعيّة الّتي تصل درجات عدم التصديق، وحتّى عدم الاحتمال. لا يهاب هلسا من الخوض العميق في المساحات النافرة المقلقة، عند وصفه حياة السجن الرتيبة في الفصل الأوّل. في الفقرة الأولى من الرواية تتردّد مفردات مثل ’مومياء‘ و’صمت‘؛ لتصف حالة الجمود المهيبة في فضاء السجن؛ إذ يظهر السجن ليس مكانًا واضح المعالم في كونه فضاء منغلقًا يتألّم فيه الجسد، لكن يتوسّع ليصبح مستنقعًا سرياليًّا يخوض فيه أبطال الرواية عقبات يوميّة تتعدّى التجربة الحسّيّة للحبس. تشوب هذا الوصف صور قوطيّة[2] تنتمي إلى عوالم مقفرة، سوداويّة، مرعبة وغامضة، تعكسها ألفاظ مثل ’أشباح‘، ’دم‘، ’قمر‘ و’طقوس‘.
يصف هلسا فضاء السجن بواقعيّة فاجعة يسودها الوصف الجروتسكيّ – النافر المقزّز، ووقائع سرياليّة تؤجّج من ثقل الواقعيّة الّتي تصل درجات عدم التصديق…
مع أنّ الوصف الواقعيّ الجروتسكي لتجربة السجن يطغى على النصّ، مثل وصف جرادل البول ورائحة العرق والإسهال، وكيف كانت “على سطح جردل الفول تسبح حشرات متماسكة لم تتحلّل، رغم الغلي الطويل”[3]، إلّا أنّ المواضع الّتي تثير الأعصاب فعلًا هي تلك الّتي يصف فيها السجن مكانًا غير قابل للمعرفة؛ فثمّة ميوعة مظلمة تسود فضاء السجن – يصفها هلسا بدقّة غير مكرّرة في أعمال أدبيّة أخرى – لا تنتمي إلى التجربة اليوميّة حتّى في سياق غاصب مثل السجن. تفصل هذه الميوعة السجن مكانًا ملموسًا عن الأبطال المسجونين. نستشفّ حالة الانسلاخ هذه، أو البتر للمكان والوقت في وصف هلسا، مثلًا لتلك “الثنائيّة المرعبة: أن تمارس الحياة، وأن تراقب نفسك وأنت تمارس الحياة”[4]، الّتي تطغى على تجربة السجن.
يؤجّج ذلك عدم معرفة السجناء لموعد إطلاق سراحهم من السجن، الّذي يصفه رواة الرواية بشكل متكرّر حالةً من اللامعقول؛ إذ إنّ “الكابوس الّذي يعيشه نزيل المعتقل هو أنّه لا يعرف متى يكون الإفراج عنه”[5]. بسبب البقاء غصبًا في مكان لا يرضخ له الوقت وسيرورته؛ يقارب أبطال الرواية السجن ويتفاعلون معه لا مكانًا مادّيًّا، لكنْ نوعًا من الكابوس؛ أي حالة سرياليّة بين الواقع والحلم، لا يمضي فيه الوقت، ولا وجود فيها لبدايات الأشياء أو نهاياتها.
السجن بوصفه برزخًا بين واقعه وما هو أسوأ
تتجلّى الحالات الكابوسيّة على هيئة كوابيس تزور أبطال الرواية، لكن أيضًا كفضاء برزخيّ سقيم يوجد بين واقع السجن وشيء آخر أشدّ وطأة منه. نسمع من أحد السجناء أنّه “عندما كنت في الزنزانة الانفراديّة، في سجن القلعة، كان يسيطر عليّ إحساس بأنّني في حلم… من الصعب أن أقنع نفسي بأنّني لست في حلم… كنت أقرص نفسي لكنّ شعوري بأنّني في حلم كان يستمرّ”[6]. يشبه وصف أبطال الرواية للسجن كحالة شلليّة تمنع الهروب الفعليّ والوجوديّ حالة كابوسيّة أخرى، ربّما اختبرها قرّاء وقارئات هذا المقال، وهي ’الجاثوم‘[7]. الجاثوم، أو شلل النوم، الّذي يستمدّ اسمه من الاعتقاد بأنّ نوعًا من الجنّ أو الشياطين يجثم على صدر الحالم، يحصل عندما يستيقظ الذهن قبل الجسد فيرى الحالم ما يجول حوله، لكنّ حالة الشلل النوميّ تمنع الصراخ أو الحركة. وصف أبطال الرواية لحالة السجن يقترب جدًّا من تجربة الجاثوم.
على الرغم من ذلك، لا يذكر هلسا الجاثوم، حتّى ضمنيًّا، في نصّ الرواية. ذلك لأنّ مقاربة مثل هذه كانت ستكون سهلة جدًّا لراوٍ مثل هلسا، أحد أبرع الروائيّين العرب. يبتعد هلسا عن التجلّيات المتوقّعة للكابوسيّة في محيط السجن، ويوظّفها في محيط مغاير لا نتوقّع أن تتوالى الكوابيس فيه، وهو محيط ’الحرّيّة‘.
يُطْلَق سراح الأبطال الأربعة، ونلحق بكلّ واحد منهم بعد ’الإفراج‘، ودخول العالم ’الواقعيّ‘ أخيرًا. تتّسم أولى لحظات الحرّيّة لدى الأبطال جميعهم بغربة، تجعل من زوجاتهم وأصدقائهم والأماكن الّتي اعتادوا أن يتردّدوا عليها طاردة لهم، حيث تُوصَف هذه اللحظات: “ذلك شعور السجين في أيّامه الأولى؛ شعور الانفصال”[8].
يشبه وصف أبطال الرواية للسجن كحالة شلليّة تمنع الهروب الفعليّ والوجوديّ حالة كابوسيّة أخرى، ربّما اختبرها قرّاء وقارئات هذا المقال، وهي ’الجاثوم‘…
يتحوّل هذا الانفصال والضيق المبرّر – لتغيّر المحيط من سجن منعزل إلى بيوت مكتظّة بالأهل والأصدقاء والأطفال، إلى ملل يثير القلق. إيهاب، أحد المعتقلين الّذين نتتبّع حياتهم بعد السجن عن كثب، يحظى بفرصة عمل مباشرة فور خروجه من السجن. عندما عرض عليه المدير أن يبدأ بالشغل فورًا، أدرك إيهاب أنّ “تلك الحرّية الّتي كانت آخر أمانيه وهو في السجن، لكنّه الآن وقد امتلكها، فقد هاجمه الملل”[9]. توظيف هلسا للفظ ’هجوم‘ لوصف الملل يشير إلى هذه الحالة غير المتوقّعة، الّتي تتعدّى الغربة، وتتعدّى فكرة الحاجة إلى التعوّد على محيط جديد لدى بطل الرواية؛ وذلك أنّه أصبح، حتّى للملل، جانبًا مهدّدًا يجب على البطل أن يحتمي منه. من هنا نبدأ، نحن القرّاء، باستشعار حالة كابوسيّة مبطّنة غير مقترنة بالسجن مكانًا مادّيًّا، لكنّها امتداد لحالة كابوس سجنيّ من نوع آخر، هذه الحالة هي الهزيمة.
غرف القاهرة بعد نكسة 1967
يُدخلنا هلسا الغرف القاهريّة الّتي يكثر فيها التدخين، والحديث عن شعور الانهزام الّذي رافق الشيوعيّين المصريّين، والهزيمة العظمى الّتي نعيش تبعاتها حتّى اليوم وهي نكسة 1967. يتحدّث الأبطال وأصدقاؤهم باسترسال عن الأوضاع السياسيّة، ومراحل الإنكار ثمّ الرفض، ثم الإذعان، الّتي رافقت الهزيمة. لا يكشف لنا هلسا شعور الهزيمة الّذي رافق أبطاله – ورافقه هو على نحو شخصيّ أيضًا- من خلال المونولوج الداخليّ المطوّل الّذي يدور في خلجة إيهاب. إذ إنّ إيهاب، الّذي يُرينا من خلال عينيه القاهرة بعد الإفراج وبعد الهزيمة العظيمة، لا يتحدّث عن شعوره بالهزيمة مباشرة. نلمح أطياف الهزيمة حين تطوف في تلك المساحات الّتي يتّخذها إيهاب، ويصفها لنا. بذلك؛ يتحوّل إيهاب إلى جاثوم الهزيمة الّذي يرقد فوق أجسادنا نحن.
تُلقي الهزيمة بظلالها على زينب، حبيبة إيهاب، الّتي يفضّل أن يرمنسها حتّى عندما تكون موجودة معه في نفس المكان. في لحظة، يتضايق إيهاب عندما تدخل زينب الحجرة، فتقاطع حلم يقظته. “عاد إلى الصالون، وأخذ يعيش حلم يقظة متكرّرًا؛ يرى نفسه يخاطب صديقًا يحكي له عن زينب”[10]. تتلاشى زينب من كونها إنسانة حقيقيّة في ذهن إيهاب، الّذي أضحى يفضّل صورة الواقع على الواقع نفسه. حتّى أنّ إيهابًا يخاطبها قائلًا: “عاملة زي الجيلي… فيك حاجة ماتت”[11]، وعند وصفه لجمالها يردف أنّه “تحت التناسق والحلاوة يوجد فساد في اللحم نفسه”[12]. بذلك يكون قد تحوّل البعض ممّن كانوا قد آمنوا بحلم التحرّر الشيوعيّ، بعد الهزيمة، إلى كائنات هلاميّة شبه ميّتة، تمور في فضاء كابوسيّ جروتسكيّ يبتلع حتّى أجسادهم.
تمتدّ هذه الحالة الكابوسيّة عند حسن، أحد أصدقاء إيهاب الّذين أُفْرِج عنهم أيضًا. يخوض حسن في سلسلة من الممارسات الّتي تدمّر حياته وسمعته، وتنتهي بتعرّضه للدهس في الشارع. عندما يرفع حسن بجسده بعد الدهس، لا نقرأ عن الوجع الّذي شعر به، لكن كيف كان “حسن يشعر بالضحك. يضغط على حلقه. قاومه – الضحك – لكنّ ابتسامة طغت على الوجه لم يكن يعلم أنّها هناك”[13]. هذه الحالة العبثيّة لردّة فعل مقلقة لا تتحقّق إلّا في الأحلام أو الكوابيس بشكل أدق؛ ففي الفضاء الكابوسيّ تتشرذم ماهيّة الأشياء والتجارب، مثل الوجع البدنيّ والموت، والوقت، والتسلسل المنطقيّ للأحداث، وعلاقتنا بالناس والأشياء، وردود أفعالنا لمواقف معيّنة.
تحوّل البعض ممّن كانوا قد آمنوا بحلم التحرّر الشيوعيّ، بعد الهزيمة، إلى كائنات هلاميّة شبه ميّتة، تمور في فضاء كابوسيّ جروتسكيّ يبتلع حتّى أجسادهم…
في وصف ساعة الهزيمة، نقرأ عن إيهاب أنّه “عندما غادر البناية كان الظلام سائدًا. كان عالمًا غريبًا في الخارج؛ أنوار الشوارع والبيوت مطفأة. السيّارات وقد دُهِنت مصابيحها بلون أزرق قاتم، كانت تسير ببطء، ولمحات الضوء الأبيض تبدو خلف زجاج المصابيح، وتنبسط شاحبة على أرض الشارع. كانت وهْم ضوء، تراه لأنّك تتوقّع أن تراه”[14]. يُقرأ هذا الوصف لخروج إيهاب إلى المدينة في خضمّ الهزيمة، كنوع من شعائر تكريسيّة تضمّه تحت فضاء أعظم مكوّن من المادّة الكابوسيّة، نفسها الّتي كانت تطغى على فضاء السجن، لكنّها شاملة الآن، ولا مفرّ منها.
تدخل هذه الفضاءات الكابوسيّة البيوت الّتي يرتادها إيهاب أيضًا. في وصف مفزع لمكثه عند صديقته، يصف إيهاب إحساسه بوجود كائن غريب يراقبه في الظلام. “وفزع غير محدّد معلّق في الجوّ يتجسّد في سمرة راكدة لها لون الماء في الظلمة. الفزع يمتدّ في الحجرة، يزداد كثافة في فراغات النجفة المعقّدة التكوين”[15]؛ فيتّضح أنّ الفضاء الكابوسيّ الّذي ابتلع القاهرة بسبب هزيمة 1967 كان قد انسلّ إلى داخل البيوت، ورقد حتّى في خامات الأثاث.
حتّى في البيت
من اللافت أنّ هذا الوصف الكابوسيّ لمكان يجب أن يكون ملاذًا آمنًا، كالبيت، يتكرّر في موضع آخر في الرواية. تفيدة، إحدى الشيوعيّات اللواتي أُفْرِج عن أزواجهنّ تختبر الكابوس ذاته في بيتها، على الرغم من عدم دخولها السجن. اللحظة الّتي يقرّر فيها هلسا أن تختبر بطلته هذا الفضاء الكابوسيّ نفسه تعبّر عن عبقريّته. ذلك أنّ تفيدة، الّتي كانت قد تركت الأحياء الشعبيّة وراءها، وقرّرت أن تصبح كاتبة، تمرّ بالتجربة نفسها قبل أن تقرّر التخلّي عن فعل الكتابة، وعدم إتمام روايتها، والعودة إلى زوجها وطفلتها. قبل أن تأخذ قرار إعدام روايتها، يتراءى لها الريف الّذي وُلِدت وعاشت فيه وقد غشته الظلمة تمامًا؛ إذ إنّه “في حلكة الغروب تعود أرواح الموتى إلى القرية، متلمّسة طريقها إلى الأهل، تعود راجية تجتذب إلى مجتمعها المزيد من الأحياء”[16]، وفي حجرة تفيدة “كان شبك الصالون فمًا مفتوحًا، شاحبًا، يبتلع المزيد من الظلمة”[17].
بعد اختبارها هذا الشعور، تتوقّف تفيدة عن الكتابة، الّتي كانت قد جعلت منها غريبة بين أهلها، وتعود إلى حياة طبيعيّة مفعمة بحبّ زوجها وطفلتها وأختها. تفيدة هي واحدة من شخصيّتين اثنتين فقط تمارسان الكتابة، إيهاب هو الشخصيّة الأخرى. على الرغم من عنوان الرواية، فإنّ «الروائيّون» في هذا العمل هما تفيدة الّتي فُزِعت من الكتابة فتركتها، وإيهاب الّذي فشل في إكمال حتّى واحدة من بين روايات عديدة شرع في كتابتها بعد إطلاق سراحه. نرى، إذن، أنّ «الروائيّون» لم ينجحا في كتابة رواية واحدة. ليس هذا فحسب، بل إنّ نيّة الكتابة قد دفعت بهما إلى فضاء كابوسيّ تسلّل إلى بيتيهما، تسبّب في عودة تفيدة إلى عائلتها، وأودت بإيهاب نحو الانتحار. المفارقة الّتي تتّضح في فشل «الروائيّون» تعزّز من شعور الهزيمة الّذي تتمحور حوله الرواية، والّذي يولّد خامات متعدّدة من الكابوسيّة المائعة. بذلك، يكون هلسا قد أبدع بتوصيف اختراق هزيمة 1967 إلى أشدّ الأماكن حميميّة، مثل أثاث البيت ولحظات العزلة فيه.
الصفاء المقترن بالموت
أمّا الأحلام الجميلة الّتي تبتعد عن الكوابيس، وتبثّ في قلب القارئ جماليّات المكان تلك[18]، الّتي اتّخذت حيّزًا مهمًّا في مخيّلة هلسا وأعماله، فتطرأ مرّتين فقط؛ في المرّة الأولى، في حلم يقف فيه إيهاب أمام البحر في يوم صيفيّ هانئ، ويتخلّل المشهد صور لورود من ارتفاع، وامرأة حسناء تمرّ بجانبه. ينتاب إيهابًا هذا الحلم في اليوم الّذي رجعت إليه هويّته السياسيّة؛ فأصبح يتحدّث بلا انقطاع عن ضرورة العمل بشكل جمعيّ نحو الحرّيّة[19]، وبذلك كانت سكينته قد عادت إليه.
«الروائيّون» لم ينجحا في كتابة رواية واحدة. ليس هذا فحسب، بل إنّ نيّة الكتابة قد دفعت بهما إلى فضاء كابوسيّ تسلّل إلى بيتيهما…
نقرأ عن الشعور الحلو الّذي ينتاب إيهابًا في موضع آخر يتنافى تمامًا مع السياق الّذي أنتجه. “منذ تلك اللحظة، أخذت المشاهد تكتسب سحرًا خاصًّا، كأنّها ذكرى، أو كالقاهرة في خياله القرويّ عندما كان طفلًا… غمره الفرح، وشعر بخفّة في جسده، يجعله يسرع”[20]. يتّضح أنّ فرح إيهاب لم يكن إلّا امتدادًا للسياق الكابوسيّ الّذي تفشّى بعد الهزيمة، والّذي لم يقوَ إيهاب على الهروب منه. “توقّف فجأة، وقرّر ألّا يعبر ’كوبري أبو العلا‘. ماذا تذكّره هذه الرؤية للعالم عندما تثير مشاهدة كلّ هذا الفرح الصافي، هذا الفرح الّذي يتقطّر بكلّ هذه الحلاوة؟ قال لنفسه: مثل هذا الصفاء يقترن بفكرة الموت”[21]. فعلًا، يعود إيهاب إلى شقّته، ويتناول الطعام مع زينب الّتي تبيّن له ضلوعها في التجسّس على الشيوعيّين، وعدم قدرتها على ممارسة حياة طبيعيّة بسبب عدم قدرتها على كبح جماح حياتها الماجنة؛ لأنّها “بعد الهزيمة انهارت، وتواصل انهيارها”[22]. تعود زينب إلى حجرتهما لتجد أنّ إيهابًا كان قد ابتلع حبّتَي سمّ ومات.
أراد هلسا في هذه الرواية أن يتعمّق في السياقات الكابوسيّة المتعدّدة الّتي أنتجتها النكسة. هزيمة 1967 كانت هزيمة شاملة ممتدّة، تخترق تفاصيل أيّامنا منذ وقوعها حتّى اليوم. أبدع هلسا في توصيف الفضاءات الكابوسيّة الّتي نشأت من الهزيمة، رغم أنّ الاستفاضة في هذا التوصيف غالبًا قد آلمت هلسا إلى حدّ بعيد. مع ذلك، فقد جعل من الهزيمة كابوسًا طاغيًا يلاحقنا علّه يذكّرنا، كلّ يوم، بضرورة التلاحم والمقاومة لدفع الكابوس، أخيرًا، عن مدننا وبيوتنا وأحبّائنا.
إحالات
[1] غالب هلسا، الروائيّون (دمشق: الزاوية للطباعة والنشر، 1988)، ص 37.
[2] بالإنجليزيّة: Gothic.
[3] الروائيّون، ص19.
[4] مرجع سابق، ص10.
[5] مرجع سابق، ص33.
[6] مرجع سابق، ص53.
[7] شلل النوم، بالإنجليزيّة: Sleep Paralysis.
[8] الروائيّون، ص40.
[9] مرجع سابق، ص101.
[10] مرجع سابق، ص126.
[11] مرجع سابق، ص149.
[12] مرجع سابق، ص159.
[13] مرجع سابق، ص190.
[14] مرجع سابق، ص142
[15] مرجع سابق، ص221.
[16] مرجع سابق، ص333.
[17] مرجع سابق، ص333.
[18] ترجم غالب هلسا كتاب الفيلسوف جاستون باشلار حول شعريّة المكان في المنزل وخارجه، وتأثّر به، حيث يذكر الكتاب على لسان إحدى الشخصيّات في «الروائيّون». Gaston Bacherlard, The Poetics of Space: The Classic Look at How We Experience Intiamte Spaces, 1958.
[19] مرجع سابق، ص185.
[20] مرجع سابق، ص385.
[21] مرجع سابق، ص385.
[22] مرجع سابق، ص194.
كاتبة فلسطينيّة تهتمّ بالأدب والفنّ المعاصر، مرشّحة دكتوراه في الأدب الفلسطينيّ، بالتركيز على الواقعيّة السحريّة في «جامعة ماربورغ».
تابع تفاصيل فضاءات هلسا الكابوسيّة في «الروائيّون» وقد تم طرح الخبر عبر عرب 48 .. تابع فضاءات هلسا الكابوسيّة في «الروائيّون»
والتفاصيل عبر الوطن #فضاءات #هلسا #الكابوسية #في #الروائيون
المصدر : عرب 48